المبدع المشرف العام على المنتدى
عدد الرسائل : 252 تاريخ التسجيل : 04/02/2008
| موضوع: رواية انثى العنكبوت_الجزء الثالث الإثنين مارس 03, 2008 12:12 am | |
|
الجزء الثالث
النظر في كل شئ... إنسان يحبة ويثق برأيه ... ترى لو كانت أمي أبدت رأيها أفقت على دنيا غير الدنيا وعالم غير العالم الذي عرفته وعشته... أشقائي وشقيقاتي وقد تفرقوا بين بيوت أزواجهن وزوجاتهم وفى السفر للدراسة وأمي التي فقدتها نهائياً بالموت... ماتت حزناً وكمداً... ماتت تكابد آلامها الكثيرة بدءاً بزواج أبي من أخرى غيرها وانتهاء بأمراضها التي لا تحصى... ماتت بعد أن أعياها الدواء وقتلها دورها الهامشي في الحياة فلا هي أم ولا زوجة ولا ابنة... هي كائن مشوه لم يعرف السبب الأساسي من وجوده، تماماً كالزائدة الدودية التي لا يعرف لها فائدة حتى الآن ... ماتت بعد أن ظلمتها الحياة وقهرها الزوج وتجاهلها الأبناء... ماتت دون دمعة ألم ولا كلمة رثاء... ( ارتاحت من الدنيا) كلمة قالها كل من عرفها .. لكني بكيتها .. بكيتها كثيراً... ليس لأنني اعتدت البكاء لكنني أشفقت عليها... نوع من الشفقة المرة اجتاحني على مصيرها، فقد عاشت وماتت دون أن تذوق طعم السعادة... وكل لحظاتها السعيدة النادرة امتزجت بمرارة غريبة... بمرارة اعتادتها ولم تنكرها.
وكما لم يقدرها أبي في حياتها فلم يرع حرمتها وهي متوفاة، فقد أحضر زوجته غداة الوفاة في نفس بيتها وحجرتها وحتى سريرها الذي تشرب دموعها وخوفها وأساها...
لم يسعنا سوى تقبل الأمر الواقع خصوصاً حينما أنجبت زوجة أبي الأولاد والبنات... علمتني الأيام والمآسي أن أعامل زوجة أبي بحياد تام، لا حب أو كراهية أو حقد ... تحاشيت كل ما من شأنه خدش القوالب وتحطيم الحدود وتجاز الأسوار، فعشنا يجللنا الاحترام المتبادل والثقة والوفاق... حتى تخرجت في الجامعة وحزت على بكالوريوس لغة عربية، فجاء تعييني في قرية تبعد عن مدينتنا عشرات الكيلومترات، حينها حدثت كبرى بيني وبين أبي... فقد رفض وظيفتي البعيدة وخيرني بين وظيفة قريبة في نفس مدينتنا أو المكوث في البيت بدون وظيفة... ناقشته ... بكيت كثيراً حتى فوجئت بتدخل زوجة أبي ... تدخلت لصالحي ووقفت تطالب بحقي في العمل ما دمت قد تعبت سنوات طويلة في الدراسة ... صمت أبي... لم أفهم هل كان صمته لاقتناعه بمنطقها... وكلامها الواقعي ورضاء واستسلاماً أم كان صمتا مغلفاً بالرفض والاحتقار والمكابرة حتى عن الرد... ثم بعد صمت طويل قال بهدوء وربما بذل وخنوع: - جهزي نفسك يا أحلام، غداً سأذهب بك إلى مدرستك في القرية لتبحثي حينها عن مواصلات لذهابك وإيابك مع زميلاتك والمدرسات...
جمدت واقفة مكاني لا أبرحه... ولا أستطيع حتى الآن تفسير الحالة الغريبة التي مررت بها... مشاعر غريبة اختلطت داخلي، فلم أستطع أن أشكر أبي على تنازله عن رأيه بهذه السهولة المقيتة ولا عكست عيني أية نظرة امتنان لزوجة أبي على تدخلها ووقوفها في صفي... هل ذهلت أو صدمت...؟ لا أدري لكن عادت بي الذاكرة إلى الوراء أعواماً طويلة لأسمع جملة أمي الخالدة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) فتهزني من أعماقي، تهزني في الصميم ... فلا حول لنا ولا قوة ولا رأي حتى أصبحنا كقشة في مهب الريح يتلاعب أبي بمصائرنا وقراراتنا دون أن يجد من يناقشه، من يقنعه... من يفهمه؟ من يحاوره؟
مضى وحده كران طائش لسفينة غارقة بلا دفة ولا اتجاه... تزوجت أختي بدرية دون أن تدري سوى قبل زفافها بأيام, لتكتشف الاختيار الخاطئ لأبيها وتتذوق العذاب ألواناً ثم تعود لإصلاح ما يمكن إصلاحه والانفصال عن زوجها السيئ وتصحيح مسار حياتها المقلوب، تفاجأ بقرار آخر أكثر سطوة وظلما وجبروتاً... أن تعود لزوجها رغم كل مساوئه لتعاود الحياة معه ، بكل عذاباتها وآلامها مسيرة لا مخيرة... ذليلة مهانة محطمة. فعاشت مع زوجها كما عاشت أمي مع أبي وأنجبت منه خمسة أطفال في جو من التشتت وعدم الاستقرار حتى توفاه الله في نوبة سكر لم يفق منها أبداً فأصدر أبي قراره الثاني دون أن يجد من يعارضه، أن تبقي في بيتها مع أطفالها دون زوج طوال حياتها. فالأرملة لا تتزوج مرة أخرى في عرف أبي وقوانينه الجائزة... فعاشت راضية قانعة دون أمل في شئ... أو في غذ مشرق يمسح عنها عذاباتها السابقة وآلامها ودموعها... كذلك أخي صالح فقد أجبره أبي إجباراً على الزواج من ابنة عمة رغم ارتباطه بقصة حب مع ابنة الجيران ووعده لها بالزواج... وقف أمام أبي يرتجف من رأسه حتى أخمص قدميه وهو يقول: - أنا لا أريد الزواج إلا من واحدة فقط يا أبي....
ذهل أبي ... بل صعق .. هل هناك من يجرؤ على معارضته في شئ أو التصدي له في أي أمر من الأمور ... فوجئت بصفعة مدوية تردد صداها في بيتنا المفجوع من أبي على صدغ أخي وهو يهدر بصوته القوي: - ستتزوج ابنة عمك شئت ذلك أم أبيت... فقد اتفقت مع عمك على ذلك ولن تكسر كلامي...
وضع صالح يده مكان الصفعة وهم أكثر من مرة بفتح فمه ليتكلم... ليناقش... ليصرخ أو يعترض لكنه لم يستطع... ولا استطعنا نحن، ولا أمي تفوهت بكلمة غير كلمتها المأثورة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) والتي تعني التسليم والانهزام والمرارة... لا أحد استطاع أن يقف في وجه أبي وقتها أو يناقشه في حق أخي في الاختيار، فهو الذي يتزوج لا أي شخص آخر ... مرض شقيقي فترة طويلة... ثم تزوج ... تزوج بعين وعقل أبيه... تزوج مرغماً يائساً كارهاً... لم تفتني دمعة انحدرت على خده ليلة زفافه وقد رضخ للأمر كأية فتاة يزوجونها رغماً عنها...
شقيقتي سعاد كانت دائمة الخلاف مع زوجة أبي على كل صغيرة وكبيرة. منها تعلمت أن الاقتراب الشديد خطر حتى من أعز الناس... فالبعد راحة وارتياح. ولا أحد يدري ماذا تكنه في أعماقك وما الذي لا تجرؤ على إعلانه... ما يحزنك وما يفرحك... الطفل الذي يسكنك ... كل الأشياء الصغيرة التي تحركك... علمت منها ك لذلك وأكثر... علمني اقترابها الشديد البعد... علمني كلامها الكثير الحذر... علمني سؤالها اللحوح الصمت... خلافاتها الدائمة مع زوجة أبي أودت بها إلي مصير لا تحلم إي فتاة بالوصول إليه... عنادها الدائم أودي بها إلي حرمان من الدراسة وزواج غير متكافئ في مدينة بعيدة... دون أي اعتراض من أحد، فقد خنقت كلمة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) إلي الأبد ... الكلمة التي تزيد من جبروت أبي وقسوته... لم يقل مصير شقيقتي التالية ندى عن مصير سعاد بكت ندى ... طال بكاؤها... حسبته حزناً على فراق سعاد وما آل إليه مصيرها ثم ازداد البكاء حدة حتى غدا نواحاً ثم صراخاً، ذهلت وأنا أراها تصرخ وتمزق ملابسها بجنون...
حضرت زوجة أبي على صراخها... حاولت تهدئتها بشتى السبل، ثم جاء أبي، حاول إسكاتها.. صرخ بها... ثم صفعها بقوة لتزداد صراخا ًوهياجاً ليزداد ضرباً لها وركلاً حتى كادت تموت بين يديه وهو يصرخ: - ستفضحنا بين الجيران.. إن موتها خير لها من الفضيحة... واستمر يضربها بقسوة حتى هتفت وهي تنتحب: - لا حول ولا قوة إلا بالله... حينها فقط كف أبي عن ضربها ووقف يضرب يداً بيد وهو يقول: - نفس مرض والدتها... يا إلهي لقد ورثت المرض من والدتها...
لم تهدا شقيقتي ندي بل نامت تلك الليلة نوماً متقطعاً تتخلله نوبات بكاء وصراخ... ولم يرحم أبي شبابها وفتوتها بل قيدها بحبال قاسية ونقلها في الصباح الباكر إلي مستشفى الصحة النفسية ليصمها بوصمة العار إلى الأبد ... مريضة بالفصام... ورفض إخراجها من المستشفي مطالبا برعايتها رعاية كاملة ليتخلص من مسؤوليتها... لم يقف أحد ليناقشه. لم يعترض أحد كائناً من كان طريقه، ليقول له بصوت عال أن هذه ابنتك ووصمة العار التي وصمتها بها لن تزول وستفقدها الأمل في حياة مشرقة بعد ذل ... لن يكون لها سوي أربعة جدران كالحة هي حجرتها في المستشفى ونساء فاقدات العقول بدون أهلية هن شريكاتها في الحجرة والحياة ... وطاقم من الأطباء يفترض فيهم النزهة والعفة يحرقونها بالكهرباء كل يوم لتفقد أية بقية باقية من عقلها... وأقراص مهدئة أو مخدرة- لا فرق- تقضي على حيويتها ونشاطها وشبابها إلي الأبد ... وأنها لن تسامحك أبداً ولن يمهلك الله طويلاً.
وانتهت ندى... ابتلعتها بوابة المستشفي لتضع أسواراً بينها وبين الحياة في الخارج... لا تزور ولا تزار بفضل حكم جائر لا يرضى عنه الله ولا خلقه... شقيقاي الآخران خالد وحمد حالفتهما النجاة بجلديهما من بطش أبي وتحكمة في مصائر الآخرين. فدرسا وعملا وتزوجا بالخارج دون أن يكون له في حياتهما أي قرار أو اختيار... ابتعدا عن الطوفان ليسلما بحملهما فتعلمت منهما درساً لا ينسى أن أبتعد بحياتي عن أي مداولة أو نقاش رغم قربي وابتعادهم وأن أنأى بخططي وقراراتي وأفكاري عن كل ما حولي رغم التصاقهم وألا أكون مضغة في الأفواه أو مادة للبحث والاستقراء... لم يكن قراري عبثاً بل إرثي الهائل من العذابات والأحزان وجهني رغماً عني للاستقلال...
حتى جاء أمر تعييني في هذه القرية البعيدة ووقوف زوجة أبي إلي جواري فقد أثبت لي كل هذا إن طريقي الذي سرته بإرادتي لم يكن إلا صائباً، فحيادي تجاههم جميعاً أورث أبي ليناً تجاهي وحدودي الثابتة مع زوجة أبي ألزمها تضامنا حقيقياً معي ... واكتشفت الأسف حقيقة أبي الرهيبة وهى أن رأيه لا يكون حقيقيا ولا ثابتا بل ينتظر إنساناً ما يعارضه ويثبت له خطأ تصوراته ليعيد في شئ ما هل كان سيصيغ لها سمعاً أم كان سيدير لها ظهره كما أداره لها طوال حياته معها..؟
ابتلعت تساؤلاتي داخلي ومضيت أستعد ليومي الأول في مدرستي الجديدة كمعلمة لأول مرة في حياتي...
وللقصة بقية تابعووووووها | |
|
عزوووف مشرف القسم الاسلامي
عدد الرسائل : 714 تاريخ التسجيل : 20/02/2008
| موضوع: رد: رواية انثى العنكبوت_الجزء الثالث الأحد مارس 23, 2008 1:45 pm | |
| | |
|