رأى بنظره الضعيف دفّتي الباب مفتوحتين أمامه ، دخل بينهما تتقدّمه عصاه بعد أن جاء من الريف بملابسه الرثّة تاركاً الكهرباء مقطوعة ليدفع تكاليف علاجه لأمراض الشيخوخة التي وافته بعد تسعين عاماً قضاها فقيراً !!
لاحت له موتة ابنه الخمسيني بمرض سرطان الدم بعدما كان يخدمه:
- آه .. ليت ابني تزوّج ليخدموني ابناءه!
قالها الشيخ بنشيج .. وهو يلفت رأسه المغطّى بشعرٍ أصلع إلا من بعض النتف البيضاء ، بعدما تعدّى الباب ، ليسمع صوت صراخٍ من غرفةٍ على يساره فالتفت فإذا بسقيم قد سقط في المستشفى مغماً عليه وتنكسر يده الأخرى حيث أن إحدى يديه مجبّرة ، فلا يقوى على النهوض ، مثل الطير الكسير!
- لا حول ولا قوة إلا بالله !
قالها الشيخ بتأوّه .. ماشياً تخطو عصاه أمامه ، ومهللاً ومنزلاً رأسه ليستوي مع ظهره راكعاً في وقار ، ليرى شخصاً آخر ملقى على الأرض يزحف ويتقيء طشّاتٍ من الدم على جدار المستشفى !
تجاهله الشيخ .. وهو يساوي رأسه للأمام ومقدّماً عصاه خطوةً كذلك ليتبعها ، ومنزلاً رأسه أشدّ من إنزاله الأوّل .
مرّت عليه الأحداث سريعاً ، وهو يعرف أن مقصده قريباً للآخرين بعيداً عنه ، فكلّما رأى مشهداً ثقلت خطاه أكثر وغلظت عصاه أكثر وصارت ثقيلة حتى على يده التي جفّت فيها العروق وبانت من آثار السنين الطوال .
بقي القيل من وصوله الصيدلية فسمع شخصاً ثالثاً بالغرفة اليسرى يقول :
- قتلتموني ..! قتلتموني ..!
أطرق الشيخ رأسه مسرعاً بخطاه نحو الصيدلية ، فمرّ من أمامه رجلاً معه طفلاً صغيراً جداً حديث عهدٍ بولادة ، ويصيح :
- أنجدوني !! إنني لا أملك المال .. إنها حالة إنسانية !!
وقف الشيخ قليلاً لينظر إلى المشهد ، فرأى الأب في حالة يرثى لها من التعب والإعياء والخوف والرعب على طفله ، وكيف أن الأطباء يصرفونه من طبيبٍ إلى آخر ، حتى رأى الرجل ابنه أخيراً فجلس على أرضية المستشفى والناس يتجمّعون حوله ويتأوّهون ، كان الرجل يصيح باكياً :
- لقد مات! لقد مات!
حث الشيخ خطاه ونزلت دمعتان من عينيه ، لقد تذكّر ابنه الذي مات ، وكيف أنه صرخ بالجيران منادياً على ابنه الذي مات !
وصل الشيخ إلى صيدلية المستشفى طالباً بعض الأدوية من الصيدلي ، وفي نفسه أن يسرع خطاه برجوعه كي لا تتكرّر عليه المشاهد المباشرة التي رآها وسمعها ، كيلا يزداد ضيقه أكثر .
دفع الرجل كل ما كان في حوزته ، بعد أن طلب العلاج ، وبمجرّد أخذه للكيس الذي يوجد بداخل بعض الأدوية الزجاجية أنقطع طرف كيس العلاج السفلي فسقطت الأدوية الزجاجية المحقونة على الأرض فوراً وتكسّرت!!
رأى الصيدلي ذلك المشهد ولم يبالي ، فناداه الشيخ ولم يرد الصيدلي حتى ادخل الشيخ نصف رأسه المتيبّس في فتحة الشبّاك الصغير ذاكراً للصيدلي بأن كيسهم الرقيق الشفّاف تسبب في سقوط الأدوية .
طلب منه الصيدلي أن يعطيه نقوداً أخرى لكي يصرف له أدوية أخرى!!
فذكر الشيخ أنه لا يملك شيئاً من المال وإنما أعطاه جميع مايملك ، وقد قام بجمع ذلك المال لدرجة أنه لم يسدّد فاتورة الكهرباء ، ثم قال الشيخ برجاء :
- أنجدوني !! إنني لا أملك المال .. إنها حالة إنسانية !!
فتمتم الصيدلي أنه لايستطيع إعطاءه الأدوية دون المبلغ المطلوب ، وأنه كان بإمكانه أن يحتضن الأدوية بيديه ، وكان ينبغي له ألا يحملها بالكيس الذي أعطاه إياه ، وكأنه يتسوّق !!
علم الشيخ أنه لا حول له ولا قوّة من أخذ أدويةٍ له عوضاً عن الأدوية التي تكسّرت تحت قدماه ، فوطأ على الزجاج الحاد برجليه النحيلتين دون مبالاة ، حينها سالت دماءه من قدميه ، وصار يردّد عاليا وهو يمشي:
- قتلتموني ! قتلتموني !
حين وصل إلى باب المستشفى المؤدّي إلى الخارج وقف بين دفّتيه لحظة ، ثم رفع رأسه عالياً ، واستوى رأسه مع عجزه ، حتى يخيّل لرائيه من بعيد أنه فتى عشريني !
مدّ الشيخ عصاه الغليظة مشيراً للسماء وتمتم بكلماتٍ سريعة وغير مفهمومة وفجأة خارت قواه وانهارت ، فسقط جسمه على الأرض سقطةً قويّة تكسّرت لها كثيراً من عظامه ، وتردّد صداها في بهو المستشفى الحكومي ، ثم ركض إليه رجل بدين يتفحّصه فصاح بالناس :
- لقد مات! لقد مات!!
بقلم:محمد عبدالعزيز العرفج